"أنمو على شفة البلاد سنابلًا" شعر لـ بديع الزمان السلطان

 أنمو على شَفةِ البلادِ سَنَابِلا

وأؤثِّثُ الوطنَ الخرابَ مَنازِلا


إنّي غلَبْتُ الحُزْنَ منذُ كَبُرتُهُ

طِفْلاً وسيَّرتُ البُكاءَ جَداولا


هذي البلادُ كبيرةٌ بجراحها

أمسَتْ شُعوباً في الأسى وقبائلا


يا أيُّها الإنسانُ يابن أبي لقد

نزفَ المكانُ وصارَ حقلُكَ قاحلا


وجَعُ القصيدةِ حين تقتلُني أَخَاً

وتجيءُ نحويَ غازِياً ومُقاتلا


مِن ألفِ جُرحٍ ما نزَفْتُ قصيدةً

إنّ المعَارِكَ لا تزالُ حَوَامِلا


بي ما بقلْبِ الأمِّ يصرخُ طفْلُها

"أبتي" فيحفرُ في الفؤادِ معاولا


بي ما ببالِ أَبٍ يُشَجِّرُ قلبَهُ

أمَلاً ، ويملَؤُ راحتيهِ تفاؤلا


بي حُزْنُ مَن رَحلوا إلى أقدارِهم

حطُّوا ببالِ الذّكرياتِ قوافلا


وأنا الذي ولَدَتْني أُمّي حامِلاً

وجَعَ السّعيدةِ منذ كانتْ حاملا


وضَعَتْني طِفْلاً لم يُشَكَّلْ وَجْهُهُ

هيَ شكّلَتْني أَنْهُرًا وسواحلا


عشرون عاماً ما همَمْتُ بوَثْبةٍ

إلا وطَوَّقَنِي الزّمانُ سلاسلا


حُوصِرتُ في وطني وضِقْتُ بأُفْقِهِ

ورحَلْتُ عنهُ نَوارِسًا وبلابلا


مُرُّوا على جسدي الجريحِ فإنّهُ

جسَدُ العُروبةِ ، واجمعوهُ هياكلا


مرّوا على أشْلائهِ وتفَقّدوا

" القدسَ الجريحةَ والشآم وبابلا "


لا تجرحوا "الزّيْتُونَ" إنّ دَمي بهِ

لو سالَ غُصنٌ مِنْهُ سِلْتُ فَصَائِلا


لا تحرقوا "بغدادَ" إنّ نَخيلَها

يعلو الجِبالَ الرّاسياتِ مُطاولا


لا تقطفوا "الوردَ الدّمشقيَّ" الذي

يذوي ليبتكرَ السّلامَ العادلا


لا تقصفوا "صنعاءَ" إنّ حبيبتي

فيها " تُمَكْيِجُ "أَعيُناً وأناملا


أحتاجُ "حقْلَاً ياسميناً"واحدًا

أُهْدِيه إيّاها ، وليسَ قنابلا


وأريدُ ليلاً هادئاً ومُسالِماً

لأَتيهَ في تلك العُيونِ مُغازلا


وأريدُ بحرَ الشّعرِ "بحرًا كاملاً

متفاعلا متفاعلا متفاعلا "


وأنا بمقهى الحبِّ آخرُ نادلٍ

حجَزَ المكانَ لعاشقَينِ تقابلا


مرَّ المساءُ ولم تُمَدّ يَدٌ إلى

الصّحنِ المَليءِ "شَوارما وفلافلا"


والنّادلُ المسكينُ يخبزُ شِعرَهُ

لهما ، ويجترحُ المَجازَ تَوابلا


كان العَناقُ يئنُّ مِن أعناقِهمْ

حتى تساقطَ أَدمُعًا وخَلاخِلا"


ذابوا على شَفَةِ الكَمانِ قصائدًا

وتَجاذَبوهُ أَغانِيًا و زَوامِلا 


كأسانِ مرّ الوقتُ بينهما فما

برَدَا ، ولا خَيطُ الدُّخانِ تضاءلا


كانوا خِفافاً حين أوّلِ قُبْلةٍ

حتى إذا اقتربَ الفراقُ تثاقلا


كلُّ المُحبّينَ الذين عرَفْتُهم

جُنُّوا ، ولستُ الآنَ شَخْصًا عاقلا


قولوا لحَيِّ "العامريّةِ" : إنّني

وجّهْتُ أشواقي إليهِ جَحافلا


قلَقُ المَسافةِ في زُجاجِ نوافذي

متناثرٌ ، قطَعَ الطّريقَ مراحلا


أنا بانتظاركِ و"الرّصيفُ" بجانبي

مُتَحَرّكٌ ، والظِلُّ أصبح مائلا


"وأصابعُ الشّبْسِ" الطّرِيّةِ في يدي

برَدَتْ "و عُودُ الوَردِ" أصبحَ ذابلا


وأذوبُ مثل "الإسكريم" على فَمِ

المعنى وأقطِفُهُ إليكِ مشاتلا


ويمرُّ وقتُ الإنتظارِ كأنّهُ

كهْلٌ يَمانيٌّ يجُرُّ جَنادلا


أوْ لَيْلِ أُنْثى ضَفَّرَتْ أشواقَها

ورَمَتْ بها للزّاجِلاتِ رسائلا


وتَمُرُّ "باصاتُ المَدينةِ" كُلُّها

وأنا أحدِّقُ في خَيالِكِ قائلا :


"ضَيّعتَ عُمْرَكَ في انتظارٍ كاذبٍ

وبنيتَ مِن وَهْمِ الغرامِ منازلا


كابدتَ ما كابدتَ في ليلِ الهوى

شَوْقًا ، وبدّلْتَ الفُروضَ نَوافلا


وتلوحُ أرضُكَ مِنْ وراءِ الليلِ في

صَمْتٍ ، وتغفو الأُمّهاتُ ثواكلا


وَجْهُ المَدينةِ مثلَ وجْهِي بائسٌ

ومَنازِلُ العُشّاقِ لَسْنَ أَواهلا


الحبُّ مثل الحَربِ نبصِرُ حتْفَنا

حقّاً ، وننتظرُ الهزيمةَ عاجلا


فإذا انهزَمْتُ خُذِي انتصارَكِ وارحلي

وخُذي ضُلوعي النّازفاتِ رَواحلا


قُتِلَ الكثيرُ .. ولستُ أوّلَ عاشقٍ

سيموتُ مقتولاً ويُبْعَثُ قاتلا !!


بديع الزمان السلطان

تعليقات